عاجل

«حلم النهار» قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي

«حلم النهار» قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي
«حلم النهار» قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي

«حلم النهار» قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي

 

دفعتني بقبضة يدها التي لا تزال تحتفظ ببعض قوتها قائلةً:

ـــــــ قم يا كسول! الشمس علت الأشجار وجدّك في الانتظار.

متثائباً أنهض، أفرك عينيّ، أطرد النعاس وبقايا الأحلام العالقة بالذاكرة، حين أصل ساحة الدار، يصافحني وجهها الذي به مسحة من جمال لا يزال، برغم رؤيتك خصلات شعرها البيضاء التي تبصّ عليك من وراء طرحة رأسها السوداء، ترى نشاطاً كبيراً وحركة دائبة، وهي تجهز وتعدّ وترصّ وتستبعد المكسور أو الذي به احمرار زائد، فهذا هو طعامنا في الإفطار، حين استدارت قاصدةً بعض أمورها فوجئت بي، تهلّل وجهها بالترحاب، وعلا صوت ضحكتها رغم القسوة التي تبدو عليها قائلةً:

ـــــــ أهلا، أهلا بأعز الحبايب! أسرع، الوقت تأخر وهم ينتظرون!

بطول الطريق كانت جدتي تخبّ في جلبابها الأسود الباهت بخطوات واسعة تأكل الطريق، وتحمل ما جهزته طيلة ليلة الخميس فوق رأسها، ونشرته في غرفة الخبيز، حتى بات يتلألأ في ضوء القمر، ذلك الذي كان يغازلني من شيش الشباك المكسور، ومع أذان الفجر استيقظت على كركبة الصاجات والمعارك المعتادة بين القطط والكلاب أمام الباب الكبير المغلق الذي نفتحه مع شروق الشمس.

كنت ألهث خلفها، ممسكاً بيدي اليسرى طرف جلبابها وباليمنى أقبض على حقيبتي المدرسية، بطول الطريق كانت تحكي عنهم، وأنّهم من البارحة ينتظرون هذه الزيارة الأسبوعية، وستجدهم فتحوا الأبواب وكنسوا الشارع ورشوه بالماء، وسقوا ظمأ الأشجار، وفرشوا البسط، وأشعلوا راكية النار، ووضعوا كنكة الشاي، وتحلّقوا حولها، في انتظار قدومنا، نحمل لهم الكعك والقرص وبلح العجوة والعنب والبرتقال، مندهشاً أسأل جدتي:

ـــــــ هل لا يوجد عندهم أكل؟!

ـــــــ لا، لا خير ربنا كثير، يعطيهم من نعمه ويأكلون من رزقه، لكن هذه زيارتنا الأسبوعية، وجدّك يحبّ أن يأكل من عمل يدي.

وكنت كلما أقترب من بيوتهم، أنكمش في مريلة المدرسة، وأحتضن جدتي خائفاً ومرعوباً، تشعر بي فتضمنّي إليها قائلة:

ـــــــ لا، لا تخف! من يحفظ القرآن لا يخاف! إن القرآن يحفظ صاحبه ويُنجيّه!

تدلف جدتي في طريقها المعتاد، وتتمتم بقراءاتها، تبسمل وتحوقل، ثم تتلو ما تيسّر لها من القرآن.

تقول وأردّد صامتاً:

ـــــــ السلام عليكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تقرأ بصوتٍ عالٍ وهي تقبض على يدي، تقطع قراءتها؛ لتشير بإصبعها: هذا بيت عمك!

تقرأ سورة الصمدية والفتح والناس والفلق، ثم تجد صوتها يتغيّر وتعلوه حشرجة واضحة، فترى فيضان دموع العيون خيوطاً، وهي تقول بحنانٍ بالغٍ ورقةٍ واضحةٍ: وهذا بيت جدك!، تنظر يميناً ويساراً، تلقي السلام على النساء الزائرات، والفقيرات السائلات، تضع يديها في سيالتها وتعطي لهنّ دون أن تنظر ماذا تعطي؟!

تضع حملها المزيّن بالبشكير الكبير ــــ الذي لا يخرج من الدولاب المكسور إلا لهذه الزيارة ــــ أمام بيت جدي، يهرول إليها المشايخ: عبد العزيز ومصطفى ومحمد، تفرش لهم الحصيرة الصغيرة أمام باب جدي تدفعني للجلوس بجوارهم قائلة:

ـــــــ اجلس يا شيخ، واقرأ معهم سورة يس، إن جدّك يحبّها، وكان يحبّ أن يسمعها كثيراً، وسورة يس لها فضل عظيم.

كنت أجلس القرفصاء على حافة الحصيرة، أردّد آيات السورة التي حفظتها خوفاً من فلكة سيدنا الشيخ على نوفل، وبين الآية والآية، كنت أفتّش عن عدة الشاي وراكية النار، أتلمس رؤية أشياء جدّي والتي أعرفها جيداً، فلا أجدها، ثم أسرع في القراءة، حتى ألحق المشايخ حين لا تضبطني جدتي منشغلا في هذا البحث، تنتهي هي من توزيع حصص الرحمة على المشايخ، ثم تقف أمامي، شبه ضاحكة قائلة:

ـــــــ افتح حجرك يا شيخ حماده وخذ نصيبك، لقد أحسنت القراءة.

في طريقي للمدرسة كنت أسأل جدّتي: أين جدّي وأصحابه؟!

تجيب وهي تنظر ناحية السماء العالية:

ـــــــ لمّا تأخرنا عليهم دخلوا ينامون كانوا سهرانين!

ـــــــ يا جدّتي أنا أحبّ جدّي قوي! وأريد أن أحضنه وأبوسه!

ـــــــ الخميس القادم، تصحو بدري، وممكن نلحقهم قبل ما يدخلوا يناموا!

في بيت جدّي، وبالطباشير المدرسي، كنت أضع خطوطاً وعلامات على الحائط وبجوار السرير، وأظلّ

أحسب كم يوماً تبقى على زيارة يوم الخميس، نعم كنت أنام عند جدّتي لأمي، مكان جدّي حتى يعود من سفره الطويل، هكذا قالت أمي وهي تجمع ملابسي، وأكد أبي وهو يوصيني بكتابة الواجب.

ثم يحتضنني طويلا قائلا: كن رجلا في غياب جدّك!

وحين قلت لأبي: إنني أحبّ جدّتي، لكن حبّي لك أشد!

استدار بسرعة وهو يمسح عينيه بطرف إصبعه قائلا: سأراك كثيراً وجدّتك سوف تأتي بك كثيراً لزيارتنا!

هل انتظرت طويلاً رؤية جدّي؟! مع الخط السادس أو العلامة السابعة لا أتذكر، وبعد صلاة العشاء دبّ النشاط في أطراف جدّتي، وكثرت الحركة بين غرفتها وساحة الدار وغرفة الخبيز، وتعودت على سماع كركبة الحلل والصاجات، وبين الحين والآخر لا بدّ أن أسمع من على سرير جدّي المعارك المتكرّرة والدامية بين القطط والكلاب، ثم ألوذ بالبطانية والدفء!

حين لسعني الشوق لرؤية جدّي صحوت مع الفجر، قمت نشيطاً، أحثّ جدّتي على السرعة، حتى أشاهد جدّي لأحضنه، وأنام على رجله ولو قليلا كأيام زمان!

بطول الطريق لا أذكر هل كنت أسير بجوار جدّتي أم أهرول أمامها؟

أنفلت سريعاً، لأدخل الشارع النظيف والمرشوش بالماء، تدفعني اللهفة، يلسعني الشوق لرؤية جدّي، حتى إذا وصلت إلى باب بيت جدّي، وجدته مقفلا، فبكيت أمام جدّتي، ورحت أجذب جلبابها الأسود قائلا:

أريد رؤية جدّي، جدّي وحشني قوي!

لكنّ جدّتي لكزتني وأشارت بإصبعها على فمها بعلامة الصمت، ووجدتني كالعادة أجلس مع المشايخ عبد العزيز ومصطفي ومحمد على الحصيرة! لكنني لا أعرف لماذا رحت أقرأ بصوتٍ عالٍ جداً يعلو على صوت المشايخ؟! ووجدتني أقرأ ثم أنظر ناحية باب جدّي، وأرفع صوتي عالياً، حتى يسمعني أو يكلّمني، أو يمدّ يده فيلمس شعري ثم ينزل بها على كتفي ويجذبني إليه برفق، ويضمني لحضنه، أو يناديني ويخصني بقطعة من الحلوى والتي لا تخلو سيالة جلبابه الأبيض منها أبداً، حين انتهت جدتي من توزيع الحصص على المشايخ في الزيارة الأسبوعية، قمت بوضع نصيبي في حجر الشيخ مصطفي قائلا:

ـــــــ يا عمّ الشيخ، لمّا ترى جدّي سلّم عليه، وقل له إنه وحشني كثيراً!

على غير العادة، صحبتني جدّتي لزيارة أبي، بعد عودتي من المدرسة وتناول الغذاء وقبل المذاكرة، بطول الطريق كانت تمسك بيدي، ورحت أقفز أمامها وخلفها ثم أسير جوارها صامتاً؛ لأنها لم تتحدث معي أو تضحك كعادتها، أو تحكي عن جدّي ومواقفه وحبّ الناس له ومكانته الكبيرة، ولم تتحدث عن أحلامها لي، وأنّها تعدّني خليفةً لجدي الكبير، حين اختارتني من بين إخوتي؛ لأعيش معها في دارها، كانت تسير وهي تزم شفتيها، مقطبة الجبين، وكنت ألمحها بين الحين والحين، تكلّم نفسها عن السفر، عن رحيل الجدّ والعمّ، ثم تعود للصمت ثانياً، حين وصلت إلى بيتنا وجدته وقد امتلأ بالأقارب، وسمعت أن الطبيب زار أبي وأعطاه بعض الأدوية، وعلى قدر ما فرحت بعودتي لدارنا، لكنّني تألمت من أجله وسألت الله له الشفاء!

بقيت ألعب مع إخوتي على الترعة الكبيرة، بجوار الجميزة وتحت ضوء القمر، حتى نادتني أمي وهي تقبّل جدّتي مودعةً، فلم أعترض إذا تذكرت قول أبي: كُنْ رجلا في سفر جدّك، فحاولت ألا أغضبه.

مضى يومان أو ثلاثة، وبينما كنت جالساً في المدرسة حتى حضر خالي وأخذني قبل الفسحة، وفي الطريق أخبرني دامعاً أن أبي سافر إلى جدّي، كم بكيت، وبكيت على هذا السفر الطويل! سفر جدّي وعمّي، وكنت أسأل نفسي هل أقدر على تحمّل سفر أبي الطويل؟!

مع الخميس الأول لزيارة أبي، وجدت الشارع أكثر نظافة، ولا يوجد أثرٌ للتراب، وازدادت الأشجار طولاً وعرضاً، وامتلأ الشارع عن آخره بالزائرين، لكنّني في النهاية عرفت الطريق إلى حصيرة المشايخ، ثم رفعت صوتي بقراءة سورة يس التي يحبّها جدّي ويحبّ أن يسمعها أبي من الشيخ محمد رفعت، ذلك الذي كان يحلو له أن يناديه بـــــــ كروان الإذاعة.

حين لسعني الشوق وتلهفت رؤية أبي، لم أنتظر موعد الزيارة الأسبوعية، أصحو مبكّراً وعلى طريق المدرسة كنت أشاهد البيوت القصيرة الهادئة، أدخل الشارع الواسع، أردّد ما حفظته من قراءة جدّتي، وأرفع صوتي دون خوف قائلا:

ـــــــ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن....

وأجد نفسي أجلس القرفصاء أمام بيت جدّي وأبي، أقرأ سورة يس وفيضان الدموع يسيل شوقاً ولهفة، للقاء الأحبة: جدّي وعمّي وأبي، حتى أجدني أحسّ بقشعريرة تسري في جسدي، فقد كانت يد أبي التي أعرفها جيداً، تلمس شعري وتنزل برفق تربت كتفي، فيجذبني إليه بحنان، ثم يضمّني في حضنه، وأجد نفسي أذوب، أذوب في هذا الحضن الدافئ الكبير، أمسح دمعي وأقبّل يده قائلا:

عُدْ، عُدْ يا أبي ولا تسافر مرة ثانية!